الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **
قال ابن عربي رضي اللّه تعالى عنه: لما كان بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم بالميزان وهو العدل في الكون وهو معتدل لأن طبعه الحرارة والرطوبة كان من حكم الآخرة فإن حركة الميزان متصلة بالآخرة إلى دخول الجنة أو النار ولهذا كان العلم في هذه الأمة أكثر مما كان في الأوائل وأعطي علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان تعطي ذلك وكان الكشف أسرع في هذه الأمة من غيرها لغلبة البرد واليبس على سائر الأمم قبلها وإن كانوا أذكياء وعلماء، ألا ترى هذه الأمة ترجمت جميع علوم الأمم، ولو لم يكن المترجم عالماً بالمعنى الذي دل عليه لفظ المتكلم به لما صح أن يكون هذا مترجماً ولم ينطلق عليه اسم الترجمة؟ فعلمت هذه الأمة علم من تقدم واختصت بعلوم لم تكن لهم. - (م عن عائشة) ورواه عنها أيضاً البيهقي في السنن وغيره. 1777 - (إن اللّه تعالى لم يأمرنا فيما رزقنا) أي في الرزق الذي رزقناه (أن نكسو الحجارة واللبن) بكسر الباء (والطين) قاله لعائشة رضي اللّه عنها وقد رآها أخذت غطاء فسترته على الباب فهتكه أو قطعه وفهم منه كراهة ستر نحو باب وجدار لأنه من السرف وفضول زهرة الدنيا التي نهى اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن لا يمد عينيه إليها بقوله - (م د) كلاهما في اللباس (عن عائشة) ظاهر صنيع المؤلف أنه مما تفرد به مسلم عن صاحبه وهو ذهول فقد خرجه البخاري أيضاً في اللباس وهو في مسلم مطولاً ولفظه عن زيد بن خالد عن أبي طلحة سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل قال أي زيد فأتيت عائشة رضي اللّه عنها فقلت هذا يخبرني أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كذا فهل سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر ذلك قالت لا ولكن سأحدثكم بما رأيت رأيته خرج في غزاة فأخذت نمطاً فسترته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال إن اللّه إلخ. 1778 - (إن اللّه تعالى لم يجعل لمسخ) أي الآدمي ممسوخ قرداً أو خنزيراً (نسلاً ولا عقباً) يحتمل أنه لا يولد له أصلاً أو يولد له لكن ينقرض في حياته يعني فليس هؤلاء القردة والخنازير من أعقاب من مسخ من بني إسرائيل كما توهمه بعض الناس ثم استظهر على دفعه بقوله (وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك) أي قبل مسخ من مسخ من الإسرائيليين فأنى لكم في أن هذه القردة والخنازير الموجودة الآن من نسل الممسوخ؟ هذا رجم بالغيب، قال السهيلي: وفي الحديث رد على زعم ابن قتيبة أن أل في قوله تعالى قال ابن العربي رضي اللّه عنه: قوله الممسوخ لا ينسل دعوى وهذا أمر لا يعلم بالفعل وإنما طريق معرفته الشرع وليس في ذلك أثر يعول عليه انتهى وهو غفول عجاب مع ثبوته في أصح كتاب ثم رأيت الحافظ الزين العراقي قال قال ابن العربي قولهم الممسوخ لا ينسل دعوى غلط منه مع ثبوته في مسلم . قال الحافظ الزين العراقي: لو تحقق أن آدمياً مسخ في صورة ما يؤكل لحمه فهل يحرم أو يحل؟ لم أر لأصحابنا فيه كلاماً وقد قال ابن العربي بحله لأن كونه آدمياً زال انتهى. والحديث بإطلاقه يعارض هذا الحديث الآتي فقدت أمّة من الأمم قال الجوهري والمسخ أي أصله تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها. - (حم م عن ابن مسعود) قال قالت أم حبيبة اللّهم متعني بزوجي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إنك لقد سأت لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة لا يعجل شيء منها قبل حله ولا يؤخر شيء منه بعد حله ولو سألت اللّه أن يعافيك من عذاب النار أو عذاب في القبر كان خيراً فقال رجل يا رسول اللّه القردة والخنازير هي مما مسخ فقال إن اللّه إلخ. 1779 - (إن اللّه تعالى لم يجعلني لحاناً) بالتشديد أي كثير الحن في الكلام بل لساني لسان عربي مبين مستقيم وصيغة المبالغة هنا ليست على بابها والمراد نفي اللحن مطلقاً وإن قل (اختار لي خير الكلام كتابه القرآن) ومن كتابه القرآن كيف يلحن لا تنقضي آياته ولا تتناهى على مر الزمان معجزاته قل أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء ورفعوا رؤوسهم من بدائعه وصنائعه تعجباً فمن القرآن خلقه ولسانه كيف يلحن. - (الشيرازي في الألقاب) أي في كتاب الألقاب له (عن أبي هريرة) قال: قلنا يا رسول اللّه ما رأينا أفصح منك فذكره وقضية كلام المصنف أنه لم يقف عليه لأحد من المشاهير الذين وضع لهم الرموز مع أن الديلمي خرجه مسنداً باللفظ المزبور عن أبي هريرة المذكور. 1780 - (إن اللّه لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا) وإنما أسكن فيها عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملاً (وما نظر إليها) نظر رضى (منذ خلقها بغضاً لها) كذا هو بخط المصنف وذلك لأن أبغض الخلق إلى اللّه من آذى أولياءه وشغل أحبابه وصرف وجوه عباده عنه وحال بينهم وبين السير إليه والإقبال عليه والدنيا مبغوضة لأوليائه شاغلة لهم عنه فصارت بغيضة له لخداعها وغرورها فهي فتنة ومحنة حتى لكبار الأولياء وخواص الأصفياء لكن اللّه ينصرهم ويظفرهم، وقصد الخبر التنبيه على أنه لا ينبغي طلب الدنيا إلا لضرورة ولا يتناول منها إلا تناول المضطر من الميتة إذ هي سم قاتل فالعاقل يطلب منها قدر ما يصان الوجه به على تكرّهٍ منها لكونها بغيضة للّه وعلى توق من سمها وحذر من غدرها وغرورها. - (ك في التاريخ) المشهور قال التاج السبكي ولا نظير له (عن أبي هريرة) وفيه داود بن المحبر قال الذهبي في الضعفاء قال ابن حبان يضع الحديث على الثقات والهيثم بن جماز قال أحمد والنسائي متروك ورواه البيهقي في الشعب مرسلاً. [ص 256] 1781 - (إن اللّه تعالى لم يضع) أي ينزل (داء إلا وضع له شفاء) فإنه لا شيء من المخلوقات إلا وله ضد فكل داء له ضد من الدواء يعالج به قال القرطبي رحمه اللّه: هذه الكلمة صادقة العموم لأنها خبر عن الصادق البشير عن الخالق القدير - (حم عن طارق) بالقاف (ابن شهاب) بن عبد شمس البجلي صحابي يعد في الكوفيين له. 1782 - (إن اللّه تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء إلا الهرم) أي الكبر فإنه لا دواء له البتة، قال ابن حجر رحمه اللّه: استثنى في الحديث الآتي الموت وهنا الهرم فكأنه جعله شبيهاً بالموت والجامع بينهما نقص الصحة أو القربة إلى الموت وإفضائه إليه ويحتمل أنه استثناء منقطع والتقدير لكن الهرم لا دواء له (فعليكم بألبان البقر) أي الزموها (فإنها ترم من كل الشجر) قد تضمن هذا الخبر وما قبله وبعده إثبات الأسباب والمسببات وصحة علم الطب وجواز التطيب بل ندبه والرد على من أنكره من غلاة الصوفية قال الحكماء: والطبيب معذور إذا لم يدفع المقدور. - (ك عن ابن مسعود) عبد اللّه ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. 1783 - (إن اللّه تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله) فإذا شاء اللّه الشفاء يسر ذلك الدواء، على مستعمله بواسطة أو دونها فيستعمله على وجهه وفي وقته فيبرأ، وإذا أراد هلاكه أذهله عن دوائه وحجبه بمانع فهلك وكل ذلك بمشيئته وحكمه كما سبق في علمه، وما أحسن قول من قال: والناس يرمون الطبيب وإنما * غلط الطبيب إصابة المقدور علق البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو الكمية نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصراً ومتى لم يقع المداوى على الدواء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمن صالحاً للدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع منع تأثيره لم يحصل البرؤ ومتى تمت المصادفة حصل قال ابن حجر رحمه اللّه تعالى: ومما يدخل في قوله جهله من جهله ما يقع لبعضهم أنه يداوي من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيداويه بذلك الدواء بعينه فلا ينجع وسببه الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين نشابها ويكون أحدهما مركباً لا ينجع فيه ما ينجع في غير المركب فيقع الخطأ وقد يكون متحداً لكن يريد اللّه أن لا ينجع وهنا تخضع رقاب الأطباء ولهذا قال: إن الطبيب لذو عقل ومعرفة * ما دام في أجل الإنسان تأخير حتى إذا ما انقضت أيام مدته * حار الطبيب وخانته العقاقير [ص 257] (إلا السام) بمهملة مخففاً (وهو الموت) فإنه لا دواء له والتقدير إلا داء الموت أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه قال ابن القيم: والحديث يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها وقد سمى النبي صلى اللّه عليه وسلم الجهل داء وجعل دواءه سؤال العلماء وفيه كالذي قبله الأمر بالتداوي ومشروعيته وقد تداوى المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وأمر به صحبه لكن لم يتداووا بالأدوية المركبة بل المفردة وربما أضافوا للمنفرد ما يعاونه أو يكسر صورته قال ابن القيم: وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها وإنما عني بالمركب الروم واليونان والأدوية من جنس الأغذية فمن غالب غذائه بالمفردات كالعرب فطبه بها فمن ثم أفرد المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم اللبن بالذكر ومن غالب غذائه المركبات فطبه بالأدوية المركبة أنفع والتداوي لا ينافي التوكل. - (ك عن أبي سعيد) الخدري ونحوه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان. 1784 - (إن اللّه تعالى لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها) بفتح المثناة تحت وشدة الطاء وكسر اللام كما في النهاية (منكم مطلع) مفتعل اسم مفعول أصله موضع الإطلاع من المكان المرتفع إلى المنخفض-ويحتمل أن مطلع اسم فاعل والمعنى لم يحرم اللّه على الآدميين حرمة إلا وقد علم اللّه أن بعضهم سيقع فيها- والمراد أنه لم يحرم على البشر شيئاً إلا وقد علم أنه سيطلع على وقوعه منهم (ألا) حرف تنبيه (وإني ممسك بحجزكم) جمع حجزة بمهملة فجيم فزاي وهي محل العقدة من الإزار (أن تهافتوا) بحذف إحدى التاءين للتخفيف أي تتهافتوا (في النار) من الهفت السقوط وأكثر ما يستعمل التهافت في الشر (كما بتهافت الفراش-جمع فراشة بالفتح دويبة تطير في الضوء وتوقع نفسها في النار أي أخاف عليكم إن ارتكبتم ما حرم اللّه عليكم أن تسقطوا في النار كما يسقط الفراش والذباب فيها فبالإمساك كناية عن الأمر والنهي- والذباب) في نار الدنيا فالرسول بأوامره ونواهيه شبيه لمن يأخذ بعقدة الإزار التي هي مجمع الجذب والأخذ عادة لكونها أجمع شيء يقع الجذب به ومع ذلك تغلب الشهوة على النوع البشري ويسقط في الحرمة كما يتساقط الفراش والذباب في النار لتوهمه أنها نور - (حم طب عن ابن مسعود) قال الهيثمي فيه المسعودي وقد اختلط. 1785 - (إن اللّه تعالى لم يكتب على الليل-يحتمل أن الياء من على مشددة وأن صياماً تمييز محول عن المفعول وأصله لم يكتب عليّ صيام الليل وإن كانت الرواية بعدم تشديد الياء فعلى بمعنى في- صياماً فمن صام تعنى) بفتح المثناة فوق والمهملة ونون مشددة أي أدخل نفسه في العناء أي المشقة (ولا أجر له) لمخالفته للمشروع فيحل فيه الفطر بل يجب لحرمة الوصال علينا وذلك لأن النهار معاش فكان الأكل فيه أكلاً في وقت انتشار الخلق وتعاطي بعضهم من بعض فيأنف عنه المرتقب والليل سبات ووقت توف وانطماس فبدأ فيه من أمر اللّه ما احتجب ظهوره في النهار وكان المطعم بالليل طاعم من ربه الذي هو وقت تجليه ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فكان الطاعم في الليل إنما أطعمه اللّه وسقاه فلم يقدح ذلك في معنى صومه وإن ظهر وقوع صورته في حسه كالناسي بل المأذون له أشرف رتبة منه ذكره الحرالي وغيره. - (ابن قانع) في معجم الصحابة (والشيرازي في) كتاب (الألقاب) كلاهما من حديث عبادة بن سني (عن أبي سعد الخير) [ص 258] صوابه كما في التقريب وغيره سعد وأبو سعيد الخير بفتح المعجمة وسكون المثناة التحتية الأنماري صحابي شامي وقيل اسمه عامر بن سعد له حديث واحد وهو هذا قال في التقريب: ووهم وصحف من خلطه بأبي سعيد الحبراني وظاهر صنيع المصنف أنه لم يره مخرجاً لأحد أعلا ولا أشهر ممن ذكره وهو عجيب فقد خرجه الترمذي في العلل عن أبي فروة الرهاوي عن معقل الكناني عن عبادة بن سني عن أبي سعد الخير أيضاً ثم ذكر أنه سأل عنه البخاري فقال: ما أراه إلا مرسلاً وما أرى عبادة سمع من أبي سعد قال البخاري: وأبو فروة صدوق لكن ابنه محمداً روى عنه مناكير ورواه ابن منده عن أبي سعد أيضاً بلفظ إن اللّه لم يكتب عليكم صيام الليل فمن صام فليتعنّ ولا أجر له. قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا في هذا الوجه وفيه معقل الكناني قال ابن حجر: لا أعرفه إلا في هذا الحديث وقد ذكره البخاري وغيره ولم يعرفه إلا فيه. 1786 - (إن اللّه تعالى لما خلق الدنيا أعرض عنها) فيه خذف وتقديره لما خلقها نظر إليها ثم أعرض عنها بقرينة الحديث الآتي عقبه (فلم ينظر إليها) بعد ذلك نظر رضى وإلا فهو ينظر إليها نظر تدبير ولولا ذلك لاضمحلت فلم يبق لها أثر ولا خبر وذلك (من هوانها عليه) أي حقارتها لما أنها قاطعة طريق الوصول إليه وعدوة لأوليائه لأنها تزينت لهم بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها وعدوة لأعدائه فإنها استدرجتهم بمكرها واقنتصتهم بشبكتها فوثقوا بها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. قيل لحكيم: ما مثل الدنيا قال: هي أحقر من أن يكون لها مثل وقال بعضهم: من نام على محبة الدنيا ومات في تلك النومة حشر مع مبغوضي اللّه لم ينظر إليه منذ خلقه. - (ابن عساكر) في التاريخ (عن علي بن الحسين) زين العابدين (مرسلاً) أرسل عن جمع كثير من الصحابة. 1787 - (إن اللّه تعالى لما خلق الدنيا نظر إليها ثم أعرض عنها) بإنقضائها ولأوصافها الذميمة ولأفعالها القبيحة والنظر الثابت المذكور هنا هو نظر الخلق والتقدير والنظر المنفي فيما قبله نظر الرضى عنها (ثم قال وعزتي وجلالي لا أنزلتك-بفتح الهمزة وسكون اللام وضم المثناة الفوقية أي كما أنزلت حبك والانهماك عليك إلخ ووجدت نسخة مضبوطة بالقلم لا أنزلنك بضم الهمزة وكسر الزاي وفتح اللام وشدة النون- إلا في شرار خلقي) أي في قلوب شرارهم ومن ثم كان أكثر القرآن مشتمل على ذمها والتحذير منها وصرف الخلق عنها وتظافرت على ذلك الكتب الإلهية وتطابقت عليه الشرائع وتوامأت عليه الأمم حتى من أنكر البعث، وأما أهل الثروة والغناء من الصدر الأول فلم تكن الدنيا في قلوبهم بل في أيديهم لصرفهم لها في وجوه الطاعات وعدم شغلهم بها عن اللّه. العارف تزداد محبته في اللّه سبحانه وتعالى كلما سلبه شيئاً من أمور الدنيا والآخرة لأنه أوقفهم على حدود عبوديتهم ولا يتجاوز بهم إلى رؤية شركتهم له في شيء من الوجود فهم راضون عنه في حال سلبهم كرضاهم حال نسبة الأمور إليهم. - (ابن عساكر) في تاريخه (عن أبي هريرة) وفي الباب غيره أيضاً. 1788 - (إن اللّه تعالى لما) أي حين (خلق الخلق كتب بيده على نفسه) أي أنبت في علمه الأزلي قال القاضي: يعني أنه لما خلق الخلق حكم حكماً جازماً ووعد وعداً لازماً لا خلف فيه فشبه حكم الجازم الذي لا يعتريه نسخ ولا يتطرق [ص 259] إليه تغيير بحكم الحاكم إذا قضى أمراً وأراد إحكام أمر عقد عليه سجلاً وحفظة ليكون حجة باقية محفوظة عن التبديل والتحريف (إن رحمتي تغلب غضبي) أي غلبت عليه بكثرة آثارها-المراد بالغلبة سعة الرحمة وشمولها للخلق كما يقال غلب على فلان الكرم أي هو أكثر خصاله وإلا فرحمة اللّه وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادة عقوبة العاصي وإثابة المطيع وصفاته تعالى لا توصف بغلبة إحداهما للأخرى وإنما هو على سبيل المجاز للمبالغة وقال الطيبي الحديث على وزان قوله تعالى وإني وإن أوعدته أو وعدته * لمخلف أيعادي ومنجز موعدي- ألا ترى أن قسط الخلق من الرحمة أكثر من قسطهم من الغضب لنيلهم إياها بلا استحقاق وأن قلم التكليف مرفوع عنهم إلى البلوغ ولا يعجل بالعقوبة عليهم إذا عصوه بل يرزقهم ويقبل توبتهم وما تعلق بالرحمة والفضل أحب إليه من فعل ما تعلق بالغضب. - (ت ه عن أبي هريرة) وورد بمعناه من عدة طرق. 1789 - (إن اللّه تعالى ليؤيد) يقوي وينصر من الأيد وهو القوة كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه وذكر اليد مبالغة في تحقق الوقوع (الإسلام برجال ما هم من أهله) أي من أهل الدين لكونهم كفاراً ومنافقين أو فجاراً على نظام دبره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام على الحدّ الذي حدّه وهذا يحتمل أنه أراد به رجالاً في زمنه ويحتمل أنه أخبر بما سيكون فيكون من معجزاته فإنه إخبار عن غيب وقع والأول هو الملائم للسبب الآتي وقد يقال الأقرب الثاني لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. - (طب عن ابن عمرو) بن العاص قال الهيثمي فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف بغير كذب فيه. 1790 - (إن اللّه تعالى ليؤيد هذا الدين) أي الدين المحمدي بدليل قوله في الخبر الآتي إن اللّه يؤيد هذا الدين (بالرجل الفاجر) واللام للعهد والمعهود الرجل المذكور أو للجنس ولا يعارضه خبر مسلم الآتي إنا لا نستعين بمشرك لأنه خاص بذلك الوقت وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مشركاً كما قال ابن المنير فلا يتخيل في إمام أو سلطان فاجر إذا حمى بيضة الإسلام أنه مطروح النفع في الدين لفجوره فيجوز الخروج عليه وخلعه لأن اللّه تعالى قد يؤيد به دينه وفجوره على نفسه فيجب الصبر عليه وطاعته في غير إثم ومنه جوزوا الدعاء للسلطان بالنصر والتأييد مع جوره وهذا قاله لما رأى في غزوة حنين رجلاً يدعي الإسلام يقاتل شديداً: هذا من أهل النار فجرح فقتل نفسه من شدة وجهه فذكره والمراد بالفاجر الفاسق إن كان الرجل مسلماً حقيقة أو الكافر إن كان منافقاً أي الإمام الجائر أو العالم الفاسق أو المجاهد في سبيل اللّه. - (طب عن عمر بن نعمان بن مقرن) بضم الميم وفتح القاف وشدة الراء وبالنون المزني. قال ابن عبد البر: له صحبة وأبوه من أجلة الصحابة قتل النعمان شهيداً بوقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين ولما جاء نعيه خرج عمر فنعاه على المنبر وبكى وظاهر صنيع المصنف أن هذا لا يوجد مخرجاً في الصحيحين ولا أحدهما وهو ذهول شنيع وسهو عجب فقد قال الحافظ العراقي إنه متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ إن اللّه تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقال المناوي: رواه البخاري في القدر وغزوة خيبر ورواه مسلم من حديث أبي هريرة مطولاً قال: شهدنا مع رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم حنيناً فقال لرجل مما يدعي الإسلام: هذا من أهل النار فلما حضرنا القتال قاتل قتالاً شديداً فأصابته جراحة قيل يا رسول اللّه الرجل الذي قلت آنفاً إنه من أهل النار قاتل قتالاً [ص 260] شديداً وقد مات فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في النار فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم كذلك إذ قيل إنه لم يمت لكن به جرحاً شديداً فلما كان الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله سلم فقال اللّه أكبر أشهد أني عبد اللّه ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن اللّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وممن رواه الترمذي في العلل عن أنس مرفوعاً ثم ذكر أنه سأل عنه البخاري فقال حديث حسن حدثناه محمد بن المثنى. اهـ. فغزو المصنف الحديث للطبراني وحده لا يرتضيه المحدثون فضلاً عمن يدعي الاجتهاد. 1791 - (إن اللّه تعالى لبتلي المؤمن) أي يختبره ويمتحنه (وما يبتليه إلا لكرامته عليه) لأن للابتلاء فوائد سنية وحكماً ربانية منها ما لم يظهر إلا في الآخرة ومنها ما ظهر بالاستقراء كالنظر إلى قهر الربوبية والرجوع إلى ذل العبودية وأنه ليس لأحد مفر من القضاء ولا محيد عن القدر ولأن اللّه حرم الجنة على من في قلبه خبث فلا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره فإنها دار الطيبين 1792 - (إن اللّه تعالى ليتعاهد عبده المؤمن) أي المصدق بلسانه وقلبه (بالبلاء) فيصب عليه في الدنيا البلاء صباً ليصب عليه في الأخرى الأجر صباً والأمراض والمصائب في الظاهر نكبة وفي الباطن تحفة إذ بذلك يرجع العبد إلى ربه ويتفكر أن هذا صنعه وتدبيره فهي هدايا من اللّه سبحانه والتعهد التحفظ بالشيء وتجديد العهد به والمراد هنا المراجعة والمعاودة مرة بعد أخرى (كما يتعاهد الوالد ولده بالخير) فيسلبه محبوبه العاجل الشاغل عنه ليصرف وجهه إليه ويحمله المكاره ليهرب منه إليه ويقبل بكلتيه عليه لأن الحبيب يحب مواجهة حبيبه ويفتح له المنهج إلى تقريبه (وإن اللّه ليحمي عبده) أضافه إليه للتشريف (المؤمن من الدنيا) أي يمنعه منها ويقيه أن يتلوث بدنسها كيلا يمرض قلبه بداء حبها وممارستها (كما يحمى المريض أهله الطعام) لئلا يزيد مرض بدنه بتناوله فهو إنما يحميه لعاقبة محمودة وأحوال سديدة مسعودة وما تقول في الوالد المشفق الغني إذا منع ولده رطبة أو تفاحة يأكلها وهو أرمد ويسلمه إلى معلم غليظ يابس ويحبسه [ص 262] طول النهار عنده ويضجره ويحمله إلى الحجام ليحجمه فيوجعه ويقلقه: أتراه فعل ذلك به لبخل أو هوان به أو قصد إيذاء له؟ لكن لما علم أن صلاحه فيه وأن بهذا التعب القليل يصل إلى خير كثير ونفع عظيم، وما تقول في الطبيب الحاذق المحب إذا منع المريض شربة ماء وهو ظمآن وسقاه شربة دواء كريه أقصده إيذاء بل هو نصح وإحسان لما علم أن في إعطائه شهوة ساعة هلاكه رأساً والغرض من التشبيه الواقع في هاتين الجملتين بيان كمال الاعتناء والشفقة والمحبة. - (هب وابن عساكر) في التاريخ في ترجمة ابن الأبيض (عن حذيفة) قال: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع إلى أهلي فيشكون الحاجة والذي نفس حذيفة بيده سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فذكره وفيه اليماني بن المغيرة قال الذهبي: ضعفوه. 1793 - (إن اللّه تعالى ليحمي عبده المؤمن) من (الدنيا) أي يحفظه من مال الدنيا ومناصها ويبعده عما يضر بدينه منها (وهو يحبه) أي والحال أنه يحبه (كما تحمون مريضكم الطعام) أي من تناول الطعام (والشراب تخافون عليه) أي لكونكم تخافون عليه من تناول ما يؤذيه منها أي والحال أنكم تخافون عليه من ذلك، وذلك لأنه سبحانه وتعالى خلق عباده على أوصاف شتى فمنهم القوي والضعيف والوضيع والشريف فمن علم من قلبه قوة على حمل أعباء الفقر الذي هو أشد البلاء صبر على تجرع مرارته أفقره في الدنيا ليرفعه على الأغنياء في العقبى ومن علم ضعفه وعدم احتماله وأن الفقر ينسيه ربه صرفه عنه لأنه لا يحب أن عبده ينساه أو ينظر إلى من سواه، فسبحان الحكيم العليم.
|